الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة فيلم «همس الرّمال» للنّــاصــر خــمــيــــر: على درب المفقود من هويّتنا

نشر في  27 جوان 2018  (11:35)

من أبواب الصحراء التي طالما رافقته في أعماله السينمائيّة السابقة، أطلّ علينا المخرج الناصر خمير في فيلمه الجديد «همس الرمال» سائرا على درب المفقود من هويّتنا. فكم من قصص شعبية اندثرت تحت رمال ذاكرتنا؟ وكم من موروث فقدناه على طريق تحضرنا المزعوم؟
في هذا الفضاء الصحراوي المفتوح والمتحرك، يحاول الناصر خمير احياء جسد هويتنا المفقودة فيعمل على استردادها من خلال شخصية الدليل السياحي (هشام رستم) الذي يقص على مسامع سائحة كندية حلّت بالجنوب التونسي حكايات ومرويات أعدمتها الثقافات الجديدة، تلك القصص التي لم تعد تبلغنا عن الوحدة والضّياع والحب وعن الدراويش التي تهيم في الثنايا بحثا عن الحقيقة.

كاميرا الترحل

يرافق هشام رستم وفق سيناريو الفيلم هذه السائحة الأجنبية التي تبحث عن مكان محدد في الصحراء حتى تفي بوعد قطعته لأمها على فراش الموت. ومع تجاذب الحديث بين الطرفين، تنفتح طيات الذاكرة، فيتجلى على الطريق هذا الارث المنسيّ أو بالأحرى هذه «الحدوثات» التي وزّعها خمير طوال شريطه فتتداخل بما فيها من عبر وخلاصات مع الرحلة الروحانية التي تقوم بها هذه السائحة بحثا عن خلاص ذاتي.
أما السيارة التي تقلهما فتصبح بمثابة كاميرا، كاميرا الترحل التي تقتفي أثر الماضي وتسبر أغوار الصحراء، التي تبحث عن المنبع وعن ثراء ألوان ووجوه فقدناها وبفقدانها أضعنا الكثير منّا ومن هوياتنا، فترد الاعتبار الى مفقود الكلمة والقصة والحكمة والجسر الذي تفتت تحت أقدامنا حتى بتنا ضائعين، مبثورين، تتقاذفنا أمواج المتوسّط وتتلاعب بنا أهواء التطرّف.

الموت الأنتروبولوجي

بصوره الموغلة في الماضي، يتحدّى الناصر خمير في شريطه الموت الانتروبولوجي ومنه موت ثقافتنا الشعبية التي اندثرت لأنّنا عجزنا على  تجديد موروثنا الحضاري حتى باتت ديارنا «ديار حرب» وفق تعبيره.. بين طيات كثبان الصحراء وطيات الذاكرة، يظفر خمير خيوطه السينمائية فيعبر عن وجهة نظره بطريقة اكثر من واضحة: لا لمحو هذا الجزء من ذاكرتنا الشعبية، لا لحرمان الأجيال من هذا الموروث القصصي الذي يمكن ان يتلقّى من خلاله الطفل أو الشاب قيم التسامح والانفتاح وخاصّة التنسيب. فأن نُنسب الأشياء  ونتفق انه لا مجال للحقائق المطلقة يقينا من  مخاطر التطرّف وويلات التعصّب.

ثنائية الماضي والحاضر

بين الماضي والحاضر، تدحرج فيلم «همس الرمال» مستحضرا حِكم خرافاتنا الشعبيّة، فيتراءى للمتفرّج حجم «الموروث المفقود» بعبره ودروسه وخلاصاته، وحجم الهوّة التي تفصلنا عن الماضي، ذلك الذي لم يبق له أيّ أثر يذكر في حاضرنا. فبتنا مُنبتّين، مسلوبين ومنزوعين من كنوز كانت تؤثّث كياناتنا وتملأ أذهاننا.. وبموتها ألفينا أغصانا مقطوعة عن جذوعها وأوراقها هائمة لا تدرك  شيئا عن مغزى الحياة.  بين الماضي والحاضر يجوب خمير بفيلمه وشخصياته ليشدد على ضرورة المحافظة على هذه الجسور التي تستجيب لمفهوم "الوصل" الواقي من الفراغ.

رحلة البحث عن الذات

أما قصّة الكنديّة التي تبحث عن شلال في الصحراء اثر وعد قطعته لأمها على فراش الموت، فتستجيب هي أيضا لرسالة الفيلم بما انها انخرطت بإرادتها في عملية بحث على ما قد يشفي غليلها ولو كان طيفا، ولو كان سرابا. ومن خلال قصتها، تتوضح فكرة الناصر خمير المنادية بضرورة الارتحال وبرفض الاستكانة والخنوع. فمن يبحث عن ماضيه، من يبحث عن الحقيقة، من يسعى للمعرفة، هو السائر على طريق الحق.

في كونية الصورة والرسالة

ومن خلال الومضات الورائية التي صوّر المخرج أغلبها في ديكور طبيعي، يتوفق خمير في اضفاء طابع كوني علي شريطه، اذ ليست تونس وحدها المعنية بمقصوده، بل الآخرون أيضا الذين لم يحافظوا على موروثهم، الذين بتفريطهم في مخزونهم الثقافي أضحوا مجرد قواقع فارغة، مجرد كيانات استهلاكيّة بلا روح...
هكذا جاء حديث الناصر خمير السينمائي، متداخلا بين طيات الذاكرة والرمل، مناصرا لموروثنا القصصي الشعبي المفقود. معركة ما فتئ الناصر خمير يقودها بأفلامه وكتبه ومنحوتاته ورسومه ضد النسيان وضد فقدان موروثنا الذي يشكّل جزءا من ذواتنا، فلا حرّية ولا ابداع ولا مستقبل لعالمنا العربي إذا ما تخلّينا عن ثقافتنا وإذا لم نعمل على تجديدها.

شيراز بن مراد